بدء المعاناة

اعتقدنا أنّ العالم متساهل مع المرء، والإنسان أخو الإنسان، ولكنّ هذا الاعتقاد يصطدم مع الواقع، ويناقضه لتمسّكه بمبدإ الأخوّة.
ما الإنسان إلا عبد للمال، قد طلّق مشاعره الإنسانيّة، ودفعها إلى الاندحار، أراد خنقها بيديه الاثنتين، لمنعها من التّنفّس بالحقّ، والبوح بأسمى عبارات الرّأفة، ولتقييد حركاتها وتصرّفاتها بسلاسل حديديّة صلبة.
ما رأيكم أيّها الأعزاء بأمّ حاولت إدخال ابنتها الّتي بلغت الثّالثة والنصف من عمرها إلى الحضانة فرُفِضت؟ لماذا؟ لأنّ الابنة عندها وضع خاصّ يعرف بـ (متلازمة الدّاون).
رحت مع الوالدة إلى هذه الحضانة (b.f.) ، الواقعة في منطقة الـ ( ج ). أطلعت المسؤولة على حالة ابنتها، فرفضتها رفضًا قاطعًا متجاهلة ما أخبرتها به الأمّ : "ابنتي تفهم ما يُقال لها، نشيطة الحركة، محبّة للغير. أريد فقط أن تعتاد على معاشرة أطفال لا تعرفهم مسبقًا، وعلى النّظام المدرسيّ، ولا أرغب بتعليمها شيئًا ممّا يعلّم عندكم، وذلك لأنّ مَدْرسة معيّنة ( ك ) طلبت إدخالها إلى الحضانة ".
إلّا أنّ المسؤولة ما راعت مشاعر الأم، وما فكّرت بهذه الطّفلة الّتي هي في حاجة إلى اهتمام أكثر من باقي الأطفال، وما سألت عن كيفيّة تصرّفها مع الأطفال الّذين يَمتُّون إليها بصلة دم أو أطفال الجيران، إنّها تُسجّل الأطفال المثاليّين، إذا صحّ التّعبير، ولا تبالي بالحالات الخاصّة اللّطيفة غير المؤذية، والمحبّة.
أهي مسؤولة جديرة بإدارة هذه الحضانة؟ أتعرف معنى الأمومة؟ أتعرف أسمى معاني الإنسانيّة؟ لا أعتقد ذلك، فنحن نحيا في عصر فُقِد منه الإباء والنّخوة والمعاملة الحسنة، نعيش فيه نادمين على مقابلتنا مسؤولات بهذه المواصفات، وعلى دولة لا تفرض رقابتها المشدّدة على مؤسّسات إن كانت رسميّة أو خاصّة، ولا تسأل على شعبها وأفرادها.
ذهبنا إلى حضانة أخرى ( j )على الأوتستراد وقابلنا المسؤولة، أطلعناها على التّفاصيل المتعلّقة بـ ( ك )، فقبلتها مرحّبة بها وبانضمامها إلى هذه الحضانة.
أشكر الرّبّ البارئ العظيم لأنّه فتح باب الرّحمة والسّعادة حين دخلت ( ك ) إلى هذه الحضانة الّتي أفادتها بأمور ودروس عديدة. من جملة ما علّمتها النّظام المدرسيّ، ودرّبتها على تنفيذ بعض الأنشطة الصّفيّة ومن بينها وصل المتشابهات والتّلوين، ودمجتها مع بقيّة التّلاميذ وخاصّة تلاميذ صفّها الّذين باتت تعرف أسماء معظمهم.

داومت لمدة سنتين على جلبها من الحضانة الّتي إذا غابت ( ك ) في يوم ما تتصّل بأمّها لمعرفة سبب الغياب.
ولكن ويا للعجب من الفرق الشّاسع في المعاملة بين الحضانتين، ويا للأسف على أشخاص لا يبالون بأوضاع الآخرين وآلامهم، ولا يهتمّون إلا بالمظاهر.